فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والعلم يأمر بالتأخر والإحجام فإن لم يصحبه اليقين قعد بصاحبه عن المكاسب والغنائم والله أعلم.
فصل:
قال صاحب المنازل رحمه الله اليقين: مركب الآخذ في هذا الطريق.
وهو غاية درجات العامة وقيل: أول خطوة للخاصة لما كان اليقين هو الذي يحمل السائر إلى الله كما قال أبو سعيد الخراز: العلم ما استعملك واليقين ما حملك سماه مركبا يركبه السائر إلى الله فإنه لولا اليقين ما سار ركب إلى الله ولا ثبت لأحد قدم في السلوك إلا به وإنما جعله آخر درجات العامة: لأنهم إليه ينتهون ثم حكى قول من قال: إنه أول خطوة للخاصة يعني: أنه ليس بمقام لهم وإنما هو مبدأ لسلوكهم فمنه يبتدئون سلوكهم وسيرهم وهذا لأن الخاصة عنده سائرون إلى عين الجمع والفناء في شهود الحقيقة لا تقف بهم دونها همة ولا يعرجون دونها على رسم فكل ما دونها فهو عندهم من مشاهد العامة ومنازلهم ومقاماتهم حتى المحبة وحسبك بجعل اليقين نهاية للعامة وبداية لهم قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: علم اليقين وهو قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق ذكر الشيخ رحمه الله في هذه الدرجة ثلاثة أشياء هي متعلق اليقين وأركانه الأولى: قبول ما ظهر من الحق تعالى والذي ظهر منه سبحانه: أوامره ونواهيه وشرعه ودينه الذي ظهر لنا منه على ألسنة رسله فنتلقاه بالقبول والانقياد والاذعان والتسليم للربوبية والدخول تحت رقع العبودية الثاني: قبول ما غاب للحق وهو الإيمان بالغيب الذي أخبر به الحق سبحانه على لسان رسله من أمور المعاد وتفصيله والجنة والنار وما قبل ذلك: من الصراط والميزان والحساب وما قبل ذلك: من تشقق السماء وانفطارها وانتثار الكواكب ونسف الجبال وطي العالم وما قبل ذلك: من أمور البرزخ ونعيمه وعذابه فقبول هذا كله إيمانا وتصديقا وإيقانا هو اليقين بحيث لا يخالج القلب فيه شبهة ولا شك ولا تناس ولا غفلة عنه فإنه إن لم يهلك يقينه أفسده وأضعفه الثالث: الوقوف عل ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله وهو علم التوحيد الذي أساسه: إثبات الأسماء والصفات وضده: التعطيل والنفي والتجهم فهذا التوحيد يقابله التعطيل وأما التوحيد القصدي الإرادي الذي هو إخلاص العمل لله وعبادته وحده: فيقابله الشرك والتعطيل شر من الشرك فإن المعطل جاحد للذات أو لكمالها وهو جحد لحقيقة الإلهية فإن ذاتا لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا ترضى ولا تغضب ولا تفعل شيئا وليست داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة ولا مجانية له ولا مباينة له ولا مجاورة ولا مجاوزة ولا فوق العرش ولا تحت العرش ولا خلفه ولا أمامه ولا عن يمينه ولا عن يساره: سواء هي والعدم والمشرك مقر بالله وصفاته لكن عبد معه غيره فهو خير من المعطل للذات والصفات فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته ونعوت كماله وتوحيده وهذه الثلاثة أشرف علوم الخلائق: علم الأمر والنهي وعلم الأسماء والصفات والتوحيد وعلم المعاد واليوم الآخر والله أعلم.
فصل:
قال: الدرجة الثانية: عين اليقين وهو المغني بالاستدلال عن الاستدلال وعن الخبر بالعيان وخرق الشهود حجاب العلم الفرق بين علم اليقين وعين اليقين: كالفرق بين الخبر الصادق والعيان وحق اليقين: فوق هذا وقد مثلت المراتب الثلاثة بمن أخبرك: أن عنده عسلا وأنت لا تشك في صدقه ثم أراك إياه فازددت يقينا ثم ذقت منه فالأول: علم اليقين والثاني: عين اليقين والثالث: حق اليقين فعلمنا الآن بالجنة والنار: علم يقين فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك: عين اليقين فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار: فذلك حينئذ حق اليقين قوله: هو المغني بالاستدلال عن الاستدلال.
يريد بالاستدلال: الإدراك والشهود يعني صاحبه قد استغنى به عن طلب الدليل فإنه إنما يطلب الدليل ليحصل له العلم بالمدلول فإذا كان المدلول مشاهدا له وقد أدركه بكشفه فأي حاجة به إلى الاستدلال وهذا معنى الاستغناء عن الخبر بالعيان وأما قوله: وخرق الشهود حجاب العلم فيريد به: أن المعارف التي تحصل لصاحب هذه الدرجة: هي من الشهود الخارق لحجاب العلم فإن العلم حجاب عن الشهود ففي هذه الدرجة يرتفع الحجاب ويفضي إلى المعلوم بحيث يكافح بصيرته وقلبه مكافحة.
فصل:
قال: الدرجة الثالثة: حق اليقين وهو إسفار صبح الكشف ثم الخلاص من كلفة اليقين ثم الفناء في حق اليقين:
اعلم أن هذه الدرجة لا تنال في هذا العالم إلا للرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى بعينه الجنة والنار وموسى عليه السلام سمع كلام الله منه إليه بلا واسطة وكلمه تكليما وتجلى للجبل وموسى ينظر فجعله دكا هشيما نعم يحصل لنا حق اليقين من مرتبة وهي ذوق ما أخبر به الرسول من حقائق الإيمان المتعلقة بالقلوب وأعمالها فإن القلب إذا باشرها وذاقها صارت في حقه حق يقين وأما في أمور الآخرة والمعاد ورؤية الله جهرة عيانا وسماع كلامه حقيقة بلا واسطة فحظ المؤمن منه في هذه الدار: الإيمان وعلم اليقين وحق اليقين: يتأخر إلى وقت اللقاء ولكن لما كان السالك عنده ينتهي إلى الفناء ويتحقق شهود الحقيقة ويصل إلى عين الجمع قال: حق اليقين: هو إسفار صبح الكشف.
يعنى: تحققه وثبوته وغلبة نوره على ظلمة ليل الحجاب فينتقل من طور العلم إلى الاستغراق في الشهود بالفناء عن الرسم بالكلية وقوله: ثم الخلاص من كلفة اليقين يعني: أن اليقين له حقوق يجب على صاحبه أن يؤديها ويقوم بها ويتحمل كلفها ومشاقها فأذا فني في التوحيد حصل له أمور أخرى رفيعة عالية جدا يصير فيها محمولا بعد أن كان حاملا وطائرا بعذ أن كان سائرا فتزول عنه كلفة حمل تلك الحقوق بل يبقى له كالنفس وكالماء للسمك وهذا أمر التحكم فيه إلى الذوق والإحساس فلا تسرع إلى إنكاره وتأمل حال ذلك الصحابي الذي أخذ تمراته وقعد يأكلها على حاجة وجوع وفاقة إليها فلما عاين سوق الشهادة قد قامت ألقى قوته من يده وقال: إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات وألقاها من يده وقاتل حتى قتل وكذلك أحوال الصحابة رضي الله عنهم كانت مطابقة لما أشار إليه.
ولكن بقيت نكتة عظيمة وهي موضع السجدة وهي أن فناءهم لم يكن في توحيد الربوبية وشهود الحقيقة التي يشير إليها أرباب الفناء بل في توحيد الإلهية ففنوا بحبه تعالى عن حب ما سواه وبمراده منهم عن مرادهم وحظوظهم فلم يكونوا عاملين على فناء ولا إلا استغراق في الشهود بحيث يفنون به عن مراد محبوبهم منهم بل قد فنوا بمراده عن مرادهم فهم أهل بقاء في فناء وفرق في جمع وكثرة في وحدة وحقيقة كونية في حقيقة دينية.
هم القوم لا قوم إلا هم ** ولولاهم ما اهتدينا السبيلا

فنسبة أحوال من بعدهم الصحيحة الكاملة إلى أحوالهم: كنسبة ما يرشح من الظرف والقربة إلى ما في داخلها وأما الطريق المنحرفة الفاسدة: فسبيل غير سبيلهم والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في وعد:
الوَعْدُ يُسْتعمل في الخَيْر والشرّ.
قال الفرّاءُ: يُقال وَعَدْتُه خَيْرًا ووَعَدْتُه شَرًّا، قال القطامى:
أَلاَ عَلِّلانِى كُلُّ حَىٍّ مُعَلَّلُ ** ولا تَعِدانِى الشَرَّ والخَيْر مُقْبِلُ

والعِدَةُ: الوَعْدُ، وفى الحديث: «العِدَةُ عَطِيَّة»، و«العِدَةُ دَيْن» قال الرّاعى يمدح سَعِيدَ بنَ العاصِ:
وأَنْضاءٍ أَنَخْنَ إِلى سَعِيدٍ ** طُرُوقًا ثُمَّ عَجَّلْن ابْتِكارَا

على أَكْوارِهنَّ بَنُو سَبيل ** قليلٌ نومُهم إِلاَّ غِرارَا

حَمَدْنَ مَزارَهُ فلَقِينَ منهُ ** عَطاءً لم يكنْ عِدَةً ضِمارَا

والمَوْعِدَةُ، والمِيعاد: المُواعَدَة، والوَقْت، لأَنَّ ما كان فاءُ الفعل منه واوًا أَو ياءً ثمَّ سَقَطَتا في المستقبل مثل يَعِدُ ويَزِنُ ويَهَبُ، ويَضَعُ، ويَئل، فإِنَّ المَفْعِل منه مكسورٌ في الاسم والمصدر جميعًا، ولا تُبالى مفتوحًا كان يَفْعلُ منه أَو مكسورًا بعد أَن تكون الواوُ منه ذاهبة، إِلاَّ أسماء جاءَت نوادِرَ، والقياس الكسر.
فإِن كانت الواو من يَفْعَلُ ثابتة نحو يَوْجَلُ ويَوْجَعُ ويَوْسَنُ ففيه الوجهان، فإِن أردت به المكان أَو الاسم كَسَرْت، وإِن أردتَ به المصدرَ فتحتَ، فقلت: مَوْجَل ومَوْجِل.
وقوله تعالى: {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ} قال مجاهد: عَهْدك، وكذلك قوله تعالى: {فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي} أي عهدى.
وقوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}، رِزْقكم: المطر، وما تُوعَدُون: الجَنَّة.
وقوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} أي يَخَوِّفكم به فيَحَمِلكم على مَنْع الزَكَوات.
قال الفرّاءُ: إِذا أَسْقَطُوا الخيرَ والشَرَّ قالوا في الخَيْر: المَوْعِد والعِدَة، وقالوا في الشرّ: الوَعِيدُ والإِيعاد.
قال عامِر بن الطَّفْيل:
ولا يَرْهَبُ ابنُ العَمِّ ماعشت صَوْلَتىِ ** ولا أَخْتَتِى من صَوْلَة المُتَهَدِّد

وإِنَّى وإِن أَوْعَدْتُه أَو وَعَدْته ** لَمُخْلِفُ إِيعادِى ومُنْجزُ مَوْعِدِى

وتَواعدَ القومُ: وَعَد بعضُهم بعضًا في الخَيْر، وأَمّا في الشَرِّ فيقال اتَّعد: {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ}.
وقال تعالى في الوَعْد بالخير: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا}.
ومن الوعد بالشَرّ قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}.
وممّا يتضمّن الأَمرَيْن جميعًا قوله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فهذا وعدٌ بالقيامة وجَزاء العِباد إِنْ خَيْرًا فَخيْرٌ وإِنْ شَرًّا فشرٌّ.
والمُواعَدَة معروفة، قال الله تعالى: {وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} أي نِكاحًا، وقال: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}، {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} فثلاثين وأَرْبَعِين مفعولٌ لا ظرف، أي انقضاءَ ثلاثين.
قال الزجّاج: كان من الله الأَمر ومن موسى القَبولُ، فلذلك ذكر بلفظ المُفاعَلَة.
وقرأ أَبو عَمْرٍو وأَهلُ البصرة: {وَعَدْنا} من الوَعْد.
وقال تعالى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} وقوله: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} يعنى القِيامَة، كقوله تعالى: {إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}.
ومن الإيعاد قوله تعالى: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} أي أَوْعَدْت مَن عَصانى من العَذاب.
قال ابن عباس قالوا يا رَسُولَ اللهِ لَوْ خَوَّفْتَنا فنزلت: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}.
فقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} تفسيرٌ للوَعْد، كما أَنَّ قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} تفسيرٌ للوَصِيَّة.
وقوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} فقوله: {أَنَّها لكم} بدلٌ من {إِحدَى الطَّائفتين}. اهـ.

.تفسير الآيات (24- 30):

قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حديث ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالوا سَلَامًا قال سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قال أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقالتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالوا كَذَلِكِ قال رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين بما مضى من القسم وما أتبعه من أنه أودع في السماوات والأرض وما بينهما أسبابًا صالحة للإتيان بما وعدناه من الخير، وما توعدنا به من الشر وإن كنا لم نرها وهو قادر مختار، فصار ذلك كالمشاهد، ولا وجه للتكذيب بوعد ولا وعيد، دل عليه وصوره بما شوهد من أحوال الأمم وبدأ- لأن السياق للمحسنين- برأس المحسنين من أهل هذه الأنباء الذي أخبرته الملائكة عليهم السلام بما سببه معه وإن كان على غير العادة.
فتعجب زوجته من ذلك مع كونها أعلى نساء ذلك الزمان، وأتبع قصته قصة لوط ابن أخيه عليهما السلام لاتصال ما بين قصتيهما في الزمان، ولمناسبة عذابهم لما أقسم به في أول السورة، فإنه سبحانه أمر الذاريات فاقتلعتهم بقراهم وحملتها كما تحمل السحاب ثم كبتهم فرجمتهم، والأرض فخسفت بهم، والملائكة الموكلة بمثل ذلك، ففعلوا جميع ما أمروا به ورأوهم في قريتهم وقصدوهم بالمكر لأنهم خفي عليهم أمرهم، وأتوا الخليل عليه السلام وهو أعلى ذلك الزمان وهم في ذلك ولم يعلم أول الأمر بشيء من حالهم ولا ظنهم إلا آدميين، فقال مفخمًا لأمر القصة بتخصيص الخطاب لأعلى الخلق وأنفذهم فهما إشارة إلى أنه لا يفهم هذا حق فهمه سواه على طريق الاستفهام على عادة العرب في الإعلام بالأمور الماضية وإن كان المخبر عالمًا بأن المخاطب لا علم له بذلك لأن المقصود ليس إلا التنبيه على أن ذلك الأمر مما ينبغي الاهتمام به والبحث فيه ليعرف ما فيه، من الأمور الجليلة؛ قال أبو حيان: تقرير لتجتمع نفس المخاطب كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب فتقرره: هل سمعت ذلك أم لا؟ فكأنك تقتضي بأن يقول: لا، ويستطعمك الحديث- انتهى.
{هل أتاك} يا أكمل الخلق {حديث ضيف} عبر عنهم بلفظ الواحد إشارة إلى اتحاد كلمتهم {إبراهيم} وهو خليلنا، ودل على أنه لم يعرف شيئًا مما أتوا به دالًا على أنهم جمع {المكرمين} أي الذين هم أهل الكرامة، وأكرمهم إبراهيم عليه السلام بقوله وفعله، ففي حديثه ذلك آية بينة على ما بين في هذه السورة من قدرة الله تعالى وصدق وعده ووعيده، مع ما فيه من التسلية لك ولمن تبعك، والبشارة بإكرام المصدق وإهانة المكذب، قال القشيري: وقيل: كان عددهم اثني عشر ملكًا، وقيل: جبريل عليه السلام، وكان معه تسعة، وقيل: كانوا ثلاثة: {إذ} أي حديثهم حين {دخلوا عليه} أي دخول استعلاء مخالف لدخول بقية الضيوف {فقالوا سلامًا} أي نحدث، ثم استأنف الأخبار عن جوابه بقوله: {قال} أي بلسانه: {سلام} أي ثابت دائم، فهو أحسن من تحيتهم.
ولما كان ما ذكر من دخولهم وسلامهم غير مستغرب عند المخاطبين بهذا، وكانت القصة قد ابتدئت بما دل على غرابة ما يقص منها، تشوف السامع إلى ما كان بعد هذا فأجيب بقوله: {قوم} أي ذوو قوة على ما يحاولونه ويقومون فيه {منكرون} أي حالهم لإلباسه أهل لأن ينكره المنكر، وقدم هذا على موضعه الذي كان أليق به فيما يظهر بادي الرأي، وإيضاحًا لأن السياق لخفاء الأسباب على الآدمي وبعدها وإن كانت في غاية الظهور والقرب ولو أنه غاية العلو فإن إنكاره لهم كان متأخرًا عن إحضار الأكل لكونهم لم يأكلوا، وهذا القول كان في نفسه ولم يواجههم به.
ولما أشار إلى أنه حين إنكاره لهم لم يعرف من أي نوع هم ولا خصوص ما هم فيه، رتب على رده لسلامهم أنه أسرع غاية الإسراع في إحضار ما ينبغي للضيف على ظن أنهم آدميون فقال: {فراغ} أي ذهب في خفية وخفة ومواضع سترة عن أعينهم كما هو من آداب الضيافة خوفًا من أن يمنعوه أو يكدر عليهم الانتظار: {إلى أهله} أي الذين عندهم بقرة {فجاء بعجل} أي فتى من أولاد البقر {سمين} قد شواه وأنضجه {فقربه إليهم} ولما أخبر بما ينبغي الإخبار به من أمر الضيافة إلا الأكل، كان من المعلوم أن التقدير: فكان كأنه قيل: فماذا قال لهم حين لم يأكلوا؟ قيل: {قال} أي متأدبًا غاية التأدب ملوحًا بالإنكار: {ألا تأكلون} أي منه.